الحضارة السومرية: إرثها وألغازها
كانت الحضارة السومرية مساهماً هاماً في تطور الحضارة الإنسانية، وما يزال تأثيرها ملموساً حتى يومنا هذا، وكان السومريون رواداً في كثير من المجالات، مثل الزراعة والتجارة والرياضيات وعلم الفلك والحكم، ولقد طوروا أول نظام للكتابة، وهو الخط المسماري الذي كان يُستخدَم لحفظ السجلات والنصوص الدينية والأدب.
أسس السومريون أيضاً مفهوم دول المدن التي كانت كيانات سياسية مستقلة لها حكامها وقوانينها واقتصادياتها، ومهَّدت ابتكاراتهم وإنجازاتهم الثقافية الطريق للحضارات اللاحقة، مثل البابليين والآشوريين والفرس.
سنناقش في هذا المقال الألغاز والأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها والتي تحيط بالحضارة السومرية، فيُعرَف الكثير عن السومريين، لكن ما تزال بعض جوانب ثقافتهم ولغتهم ومعتقداتهم بعيدة المنال أو غامضة، فمن خلال فحص هذه الألغاز، يمكننا اكتساب فهم أعمق للحضارة السومرية وإرثها الدائم، وسوف نتعرف إلى موضوعات مثل اللغة والكتابة السومرية، والدين والأساطير، والتكنولوجيا والابتكار، وإرث وتأثير هذه الحضارة القديمة.
لمحة تاريخية عن الحضارة السومريّة:
ظهرت الحضارة السومرية في المنطقة الجنوبية من بلاد ما بين النهرين التي هي الآن “العراق”، وعُرِفت المنطقة بـ “سومر”، وكانت تقع بين نهري “دجلة” و”الفرات”، فكانت “سومر” عبارة عن سهل منبسط وخصب ومثالي للزراعة، وقد ازدهرت الحضارة السومرية بين عامي 2000 و4000 قبل الميلاد، مع صعود وهبوط عديد من دول المدن خلال هذا الوقت، وتضمنت أهم دول المدن “أوروك” و”أور” و”نيبور” و”لجش”.
كانت الحضارة السومرية أول مجتمع معقد معروف في العالم، وقد تطورت استجابةً لتحديات العيش في منطقة ذات موارد شحيحة وفيضانات متكررة، فقد طور السومريون تقنيات زراعية متقدمة، مثل الري لدعم عدد سكانهم المتزايد، ولقد طوروا أيضاً نظاماً سياسياً معقداً؛ إذ يكون لكل مدينة حاكمها وقوانينها واقتصادها، كما بنى السومريون بنية تحتية رائعة، مثل القنوات والمعابد وأسوار المدينة، وكانوا أيضاً ماهرين في التجارة، مع وجود أدلة على التجارة لمسافات طويلة مع مناطق أخرى.
كان الاقتصاد السومري قائماً على الزراعة، وكان الشعير أهم المحاصيل، وشملت المحاصيل الأخرى القمح والتمور والخضروات، كما قام السومريون بتربية الماشية، مثل الأغنام والماعز، وأيضاً كانت التجارة جزءاً هاماً من الاقتصاد السومري؛ إذ كانت دول المدن تتبادل البضائع، مثل المنسوجات والمعادن والمواد الغذائية، وكان الهيكل الاجتماعي السومري هرمياً؛ إذ كانت الطبقة الحاكمة في القمة وعامة الناس في الأسفل.
ضمت الطبقة الحاكمة الملك والكهنة والنبلاء، وكانت عامة الناس مزارعين وعمال وحرفيين، كما كانت العبودية أيضاً جزءاً من المجتمع السومري؛ إذ تم استعباد أسرى الحرب والمدنيين، وكان لدى السومريين أيضاً نظام معقد من القوانين والعقوبات التي كانت تفرضها الطبقة الحاكمة.
شاهد بالفيديو: 6 نصائح عملية لتتخلص من الانغلاق الفكري وتصفي ذهنك.
اللغة والكتابة السومرية:
يعود الفضل إلى السومريين في اختراع أول نظام للكتابة يُعرَف باسم الكتابة المسمارية، فقد كانت الكتابة المسمارية عبارة عن نصوص تستخدم علامات على شكل إسفين مصنوعة على ألواح من الطين باستخدام قلم من القصب، وقد تم استخدام البرنامج النصي لحفظ السجلات والنصوص الدينية والأدب والمراسلات، وكانت الكتابة المسمارية تطوراً هاماً في تاريخ البشرية؛ إذ مكَّنت الناس من تسجيل المعلومات ونقلها بطريقة منهجية.
كتب السومريون مجموعة متنوعة من الموضوعات، مثل المعاملات الاقتصادية والوثائق القانونية والنصوص الدينية، وفي النهاية تم تبنِّي الكتابة المسمارية من قِبل الحضارات الأخرى في المنطقة، مثل البابليين والآشوريين.
كانت اللغة السومرية منعزلة؛ بمعنى أنَّها لم تكن مرتبطة بأيَّة لغة أخرى معروفة، وكانت لغة معقدة مع مفردات وقواعد ثرية؛ إذ تم استخدام اللغة في الشعر والأناشيد والأساطير، فضلاً عن التواصل اليومي، وعلى الرغم من حقيقة أنَّ اللغة السومرية لم يعد يتم التحدث بها، فقد كان لها تأثير دائم في الحضارات اللاحقة، وكذلك تمت استعارة عدة كلمات وعبارات مستخدَمة في السومرية من قِبل لغات أخرى، مثل الأكادية التي كانت لغة سامية يتم التحدث بها في بلاد ما بين النهرين.
الألغاز التي تحيط باللغة والكتابة السومرية:
على الرغم من حقيقة أنَّه تم فك رموز الكتابة المسمارية، لكن توجد عدة ألغاز تحيط باللغة والكتابة السومرية، ومن هذه الألغاز الرئيسة معنى بعض النصوص التي عُثِر عليها؛ إذ تحتوي بعض الألواح على صيغ رياضية، بينما يحتوي بعضها الآخر على أوصاف للاحتفاءات الدينية، وما يزال العلماء يدرسون بعض هذه النصوص في محاولة لفهم أهميتها.
يوجد لغز آخر وهو الغرض من بعض الأشياء التي تم العثور عليها مع نقوش عليها، فقد تم استخدام بعض الأشياء، مثل الأختام الأسطوانية لختم التصاميم على ألواح من الطين، بينما قد يكون لبعض الأشياء، مثل التماثيل النذرية أغراض دينية أو احتفائية.
الدين والأساطير في الحضارة السومرية:
كان للسومريين دين متعدد الآلهة، وهذا يعني أنَّهم كانوا يعبدون آلهة متعددة، فقد ارتبطت الآلهة بظواهر طبيعية كالشمس والقمر والنجوم وكذلك بالنشاطات البشرية كالحرب والخصوبة، كما اعتقد السومريون أنَّ الآلهة يتحكمون في كل جانب من جوانب حياتهم، وقاموا ببناء معابد وتماثيل رائعة لتكريمهم، ومن أهم الآلهة الإله “آن” إله السماء، و”إنليل” إله الرياح والعواصف، و”إنانا” آلهة الحب والحرب.
أساطير وملحمة جلجامش:
كان للسومريين أساطير وقصص ثرية تشرح أصول العالم وأدوار الآلهة، ومن أشهر أعمال الأدب السومري “ملحمة جلجامش” التي تحكي قصة ملك أسطوري يسعى إلى الخلود؛ إذ تعد الملحمة واحدة من أقدم الأعمال الأدبية في العالم، وكان لها تأثير دائم في الأعمال الأدبية اللاحقة، وكذلك كان لدى السومريين أيضاً أساطير عن الخَلق أوضحت كيف خُلِق العالم والبشر.
الطقوس ومعتقدات الحياة الآخرة لدى السومريين:
كان لدى السومريين نظام معقَّد من الطقوس والاحتفاءات التي كانت تُقام لتكريم الآلهة، وقد تضمنت هذه الطقوس قرابين من الطعام والشراب والبخور وكذلك الذبائح الحيوانية، وكذلك كان السومريون يؤمنون أيضاً بالحياة الآخرة، ودفنوا موتاهم مع الأغراض الجنائزية، مثل المجوهرات والأسلحة لمرافقتهم في رحلتهم إلى العالم السفلي، كما اعتقد السومريون أنَّ العالم السفلي كان يحكمه الآلهة “إريشكيجال”، وأنَّ الموتى سيحكم عليهم الإله “نيرجال”.
ألغاز وأسئلة بلا إجابة عن الحضارة السومرية:
على الرغم من حقيقة أنَّ كثيراً من الأمور معروف عن الدين والأساطير السومرية، لكن توجد عدة ألغاز وأسئلة لم تتم الإجابة عنها، وأحد الألغاز هو الغرض من بعض الأشياء التي تم العثور عليها في المعابد السومرية، مثل التماثيل الطينية والأشياء الطقسية.
لغز آخر هو دور المرأة في الدين والأساطير السومرية؛ إذ ارتبطت العديد من الآلهة بالخصوبة والولادة؛ لذا يواصل العلماء دراسة الدين والأساطير السومرية في محاولة لفهم أهميتها وتأثيرها في الحضارات اللاحقة.
التكنولوجيا والابتكار في الحضارة السومرية:
1. كان السومريون من أوائل الحضارات التي طورت الزراعة:
قاموا ببناء أنظمة ري معقَّدة لسقاية محاصيلهم والحيوانات من أجل اللحوم والعمل، كما طوروا أدوات وتقنيات جديدة للزراعة، مثل المحراث الذي سمح لهم بزراعة مساحات أكبر من الأرض بشكل أكثر كفاءة، فقد سمحت هذه الابتكارات الزراعية للسومريين بدعم عدد أكبر من السكان وبناء مجتمعات أكثر تعقيداً.
2. كان السومريون ماهرين في التخطيط العمراني والهندسة المعمارية:
قاموا ببناء هياكل كبيرة متعددة المستويات مصنوعة من الطوب اللبن، مثل الزقورات التي كانت عبارة عن أهرامات ضخمة متدرجة تُستخدَم للاحتفاءات الدينية، كما طوروا تقنيات لبناء أسوار وتحصينات قوية لحماية مدنهم، وأيضاً عُرِف السومريون باستخدامهم المبتكَر للأقواس والأعمدة، وهذا سمح لهم بإنشاء مبانٍ أكبر وأكثر تعقيداً.
3. قدم السومريون مساهمات كبيرة في الرياضيات والعلوم:
لقد طوروا نظاماً رقمياً يعتمد على الرقم 60 الذي ما يزال يُستخدَم لقياس الوقت والزوايا، كما طوروا تقنيات لقياس الأرض وهياكل المباني، وكانوا علماء فلك ماهرين، مستخدمين معرفتهم بالنجوم لتطوير التقويمات والتنبؤ بالكسوف، وكان السومريون أيضاً أول من استخدم شكلاً من أشكال الجبر لحل المعادلات الرياضية.
4. كان السومريون خبراء معادن ماهرين:
عملوا في المعادن، مثل النحاس والذهب والفضة، ولقد طوروا تقنيات لصهر المعادن وتنقيتها، واستخدموها لإنشاء مجموعة متنوعة من الأشياء، مثل المجوهرات والأدوات والأسلحة، وكان السومريون أيضاً تجاراً ماهرين، ولديهم شبكات تجارية واسعة امتدت إلى المنطقة، ولقد تبادلوا مجموعة متنوعة من السلع، مثل المنسوجات والحبوب والتوابل، واستخدموا شبكاتهم التجارية الواسعة لنشر ثقافتهم وأفكارهم.
على الرغم من معرفتنا الكبيرة عن التكنولوجيا والابتكار عند السومريين، لكن توجد عدة ألغاز وأسئلة لم تتم الإجابة عنها، وأحد الألغاز هو الغرض من بعض الأشياء التي تم العثور عليها في المواقع السومرية، مثل الآليات والأجهزة المعقدة.
لغز آخر هو مدى معرفتهم بالمعادن والكيمياء؛ إذ كانوا قادرين على إنشاء سبائك وأصباغ لم يتم تطويرها من قِبل الحضارات الأخرى لقرون عدة؛ لذا يواصل العلماء دراسة التكنولوجيا والابتكار عند السومريين في محاولة لفهم أهميتها وتأثيرها في الحضارات اللاحقة.
إرث الحضارة السومرية وتأثيرها:
- كان للسومريين تأثير عميق في الأدب والثقافة، سواء في أوقاتهم أم في الحضارات اللاحقة، وكان لملحمة جلجامش – وهي واحدة من أقدم الأعمال الأدبية في العالم – تأثير دائم في الأعمال الأدبية اللاحقة، مثل الكتب الدينية وأعمال المؤلفين اليونانيين القدماء، كما كان للسومريين أيضاً تقليد غني بالموسيقى والرقص والمسرح، ويمكن رؤية تأثيرهم في الموسيقى والمسرح للحضارات اللاحقة.
- كان السومريون من أوائل الحضارات التي طورت نظاماً من القوانين والحكم، ولقد أنشؤوا أول قانون مكتوب وهو قانون “أور نامو” الذي أنشأ نظاماً للعدالة وحدد العقوبات على الجرائم، كما طور السومريون أيضاً نظاماً للحكومة يشمل الملوك والكهنة والبيروقراطيين، وكان لأفكارهم عن الحكم والقانون تأثير دائم في الحضارات اللاحقة.
- كان للسومريين تأثير عميق في الدين والأساطير، فقد تم تبنِّي عديد من الآلهة التي عبدها السومريون من قِبل الحضارات اللاحقة، مثل البابليين والآشوريين.
- قدم السومريون مساهمات كبيرة في التكنولوجيا والابتكار، فكان لتطويرهم للزراعة وأنظمة الري والمعادن تأثير عميق في الحضارات اللاحقة، وهذا سمح لهم بدعم عدد أكبر من السكان وبناء مجتمعات أكثر تعقيداً، وكذلك قدم السومريون مساهمات كبيرة في الرياضيات والعلوم، ووضعوا الأساس لتطوير علم الفلك والرياضيات والطب في الحضارات اللاحقة.
في الختام:
كانت الحضارة السومرية من أكثر الحضارات إبداعاً وتأثيراً في تاريخ البشرية، فيمكن رؤية إرثهم في مجموعة واسعة من المجالات، مثل اللغة والأدب والقانون والحكم والدين والتكنولوجيا، ولقد قدموا مساهمات كبيرة في تطوير الزراعة والتخطيط الحضري والرياضيات والعلوم والمعادن والتجارة، ووضعوا الأساس للحضارات اللاحقة للبناء عليها.
على الرغم من العديد من الألغاز والأسئلة التي لا إجابة لها عن السومريين، لا يمكن إنكار تأثيرهم في الحضارة الإنسانية، فمن خلال دراسة إنجازاتهم، يمكننا الحصول على فهم أفضل لتاريخنا والطرائق العديدة التي تطورت بها المجتمعات البشرية وتطورت أكثر مع مرور الوقت.