اكتشف عبق الماضي وحضارة العرب في سوق عكاظ
وكانت القبائل في الجاهليَّة تتجمَّع في هذا السوق العريق طوال عشرين يوماً، فيبيعون ويشترون ويتبادلون الحكايات والأشعار، ويُعاد إحياء سوق عكاظ بفعالياته ومنافساته الشعرية؛ ليصبح جسراً يربط بين ماضٍ زاخر بالتراث الأدبي، وحاضر يعيد للغة العربية بريقها، فكما قيل قديماً: “الشعر ديوان العرب”.
نبذة عن سوق عكاظ
سوق عكاظ هو أحد أبرز المعالم الثقافية والتاريخية في المملكة العربية السعودية، ويُعدُّ من أقدم الأسواق في الجزيرة العربية، ويعود تاريخ هذا السوق إلى فترة ما قبل الإسلام، وكان يُعقَد في الفترة ما بين الأوَّل والعشرين من شهر ذي القعدة من كلِّ عام، ويقع السوق في مدينة الطائف، على بُعد حوالي 45 كم شمال شرق المدينة.
كان سوق عكاظ سوقاً تجارياً، وسياسياً، وأدبياً، ومركزاً للتفاخر بين القبائل العربية، فتفاخروا فيه بأنسابهم وأنشدوا الأشعار، ويُعتقَد أنَّ السوق بدأ في عام 501 ميلادياً عندما كانت العرب تتوافد إليه، ثم يتوجَّهون إلى سوق مجنة، ثمَّ إلى سوق ذي المجاز، ومن ثمَّ يكملون رحلتهم إلى الحجِّ الجاهلي، وكانت قبيلة قريش هي التي بادرت إلى إنشاء هذا السوق في موقع “العثدية” بين مكة والطائف، وكانت له أهميَّة تجارية وأدبية كبيرة.
اتَّخذ عكاظ شعاراً دينياً، وعُبِدَ فيه صنم “جهار” لهوازن، فطاف الناس بالصخور، وحجُّوا إليه في ذلك الوقت، وعُرِضَ في السوق جميع أنواع البضائع الماديَّة مثل التمر، والعسل، والسمن، والملابس، والإبل، والخمر، إضافة إلى البضائع الأدبية، فأنشد الشعراء قصائدهم، وتنافسوا في المسابقات الأدبية، وكان أيضاً مكاناً للمفاخرة والمنافرة بين القبائل، ومكاناً لتعليق المعلَّقات السبع المشهورة، وحضور الخطباء، وقد دخل النبي محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – هذا السوق؛ لتبليغ دعوة الله تعالى إلى القبائل.
انتهى سوق عكاظ القديم، وثمة رأيان عن أسباب ذلك؛ يُشير الأوَّل إلى أنَّ السوق اندثر بقدوم الإسلام، وتغيَّرت الأولويات والاهتمامات الثقافية والاجتماعية في ظلِّ انتشار الدين الجديد، وهذا أدى إلى هدم الأسواق التقليدية مثل عكاظ، ويعزو الثاني أسباب نهايته إلى غارات الحرورية في عام 129 هـ بقيادة “المختار بن عوف الأزدي”، وقد أدَّت هذه الهجمات إلى خوف الناس من النهب والسلب، وهذا دفعهم لترك السوق، ويُضاف إلى ذلك عدَّة عوامل أخرى مثل توسُّع الفتوحات الإسلامية، وانتقال مراكز الحضارة إلى دمشق وبغداد، وهو ما قلَّل من الحاجة إلى السوق، وأدى إلى نهايته.
توقَّف سوق عكاظ عن العمل لأكثر من 1300 سنة، ولكنَّ المملكة العربية السعودية أعادت إحياءه في عام 1428هـ في عهد الملك “عبد الله بن عبد العزيز آل سعود”؛ ليصبح معلماً سياحياً وثقافياً يشهد على عراقة التراث العربي القديم، وتُشرف وزارة السياحة على السوق حالياً، ويُعدُّ ملتقى للفنانين والأدباء والشعراء من مختلف أنحاء العالم العربي، وتُقام فيه ندوات ثقافية وأمسيات شعرية وأدبية، إضافة إلى مسابقات أدبية وفنية تشمل الشعر، والقصة القصيرة، والرسم، والتصوير.
أين يقع سوق عكاظ؟
يقع سوق عكاظ في المملكة العربية السعودية في وادٍ بين مكة المكرمة والطائف، على بعد أربعين كيلو متراً إلى الشمال من الطائف، وعلى يمين المتَّجه إلى الرياض، ويوجد السوق في مكان يُعرف بـ “الأثيداء”، والذي يتميَّز بوجود المياه والنخل والأراضي المستوية التي تخلو من الجبال، باستثناء بعض الأنصاب التي تعود للزمن الجاهلي، ووفقاً لأقوال القدماء: فإنَّ موضع عكاظ كان بأعلى نجد في ديار “قيس بن عيلان بن مضر” بين وادي نخلة والطائف، وراء قرن المنازل، على بعد مسيرة ليلة واحدة على طريق المسافر من مكة إلى اليمن.
يقع السوق في العصر الحديث في الجزء الجنوبي الشرقي من مكة المكرمة، ويبعد عنها ثلاث ليالٍ، وعُقِدَ سوق عكاظ في الجاهليَّة لمدة 20 يوماً في شهر ذي القعدة من كل عام، وشهد توافد الناس من مختلف القبائل للتجارة، والتبارز الشعري، وعقد الصفقات، وتسوية النزاعات، وأعادت المملكة في السنوات الأخيرة إحياء سوق عكاظ بصفته مهرجاناً ثقافياً وسياحياً يجذب الزوَّار من مختلف أنحاء العالم؛ للاستمتاع بالفعاليات المتنوِّعة التي تشمل: العروض الفنية، والنشاطات التراثية، والمسابقات الشعرية، والمعارض الحرفية.
سبب تسمية سوق عكاظ بهذا الاسم
سُمِّي سوق عكاظ بهذا الاسم؛ لاجتماع العرب فيه كل سنة، فيعكظ بعضهم بعضاً بالمفاخرة والتناشد، وكلمة (يعكظ) تأتي بمعانٍ متعدِّدة مثل (الحبس، العراك، القهر، المفاخرة، الدعك، الجدال، الاجتماع، الازدحام) وجميعها تفسِّر سبب التسمية.
أبرز الأقوال في سبب التسمية
1. التنافس في البلاغة والشعر
يُقال إنَّ السوق كان مكاناً للتنافس الشعري والخطابي، فعرض الشعراء والمتحدِّثون أعمالهم، وتباروا في الفصاحة والبلاغة، وأتت كلمة “عكاظ”من الفعل “عكظ”؛ الذي يعني الاحتباس أو الحبس، وكأنَّهم حبسوا الناس لسماع خطبهم وشعرهم.
2. الاجتماع والتحكيم
يُعتقَد أنَّ اسم السوق قد أتى من الفعل “عكظ”؛ بمعنى جمع الناس وتحكيمهم، فقد كان السوق مكاناً للتجمُّع الاجتماعي والتحكيم بين القبائل.
3. الحبس عن الأذى
من التفسيرات الأخرى أنَّ اسم “عكاظ” ارتبط بفعل “عكظ”؛ الذي يعني الحبس أو الردع، فالسوق كان مكاناً يُمنَع فيه الأذى والاعتداءات في أثناء فترة انعقاده، وهذا يجعله مكاناً آمناً للتجارة والنشاطات الأخرى.
مهرجان سوق عكاظ
مهرجان سوق عكاظ هو فعالية ثقافية وتراثية تُنظِّمها المملكة العربية السعودية سنوياً في منطقة الطائف، إحياءً لذكرى سوق عكاظ التاريخي الذي كان يُعقَد في الجاهلية وصدر الإسلام، ويُعدُّ المهرجان جزءاً من رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تعزيز السياحة والتراث الثقافي.
يُعدُّ مهرجان سوق عكاظ مهرجاناً سنوياً ثقافياً سعودياً، يُقام على أطلال سوق عكاظ التاريخي في محافظة الطائف، ويمثِّل محطة هامَّة في تاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية، وهو من أكبر المهرجانات الثقافية على مستوى المملكة، ومن المبادرات الرائدة لبرنامج خادم الحرمين الشريفين الملك “سلمان بن عبد العزيز آل سعود”؛ للعناية بالتراث الحضاري.
يقع سوق عكاظ في العصر الحالي في محافظة الطائف على مساحة تُقدَّر بنحو 14 مليون م²، ويعود تاريخه إلى نحو 1500 عام، وكان السوق أكبر أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، وأثرى الحركة الأدبية والاقتصادية منذ نشأته، وانطلقت الدورة الأولى لسوق عكاظ في عام 1428هـ/ 2007م، وازدهر المهرجان بمرور السنوات، وكانت إمارة منطقة مكة المكرمة تنظِّم وتشرف عليه حتى عام 1438هـ/ 2016م، لينتقلَ التنظيم بعدها إلى وزارة السياحة ضمن مواسم السعودية، ويقدِّم المهرجان نحو 150 فعالية متنوعة، إضافة إلى عدد من البرامج الثقافية التي تشمل دورات وأمسيات ومسابقات، ويضمُّ مسرحاً يتَّسع لـ 2500 شخص.
تصل قيمة جوائز المهرجان إلى نحو 2,500,000 ريال، وتشمل: جائزة الإبداع المسرحي، وجائزة الخط العربي، وجائزة الفنون الشعبية، وجائزة الحرف والصناعات اليدوية، ويدعم المهرجان المهارات الشابة عبر جوائز دولية مشجِّعة، أبرزها جائزة “شاعر عكاظ” المختصَّة بدعم الشعر العربي الفصيح، والتي شارك فيها 141 شاعراً وشاعرةً عام 1440هـ/ 2019م. كما تتضمَّن الجوائز الأخرى مجالات مثل التصوير الضوئي، والفنون التشكيلية التفاعلية، والفنون التشكيلية الحرَّة، وفنُّ الخطابة عند الناشئين، وفنُّ الابتكار، وريادة الأعمال، والقصة القصيرة ضمن جائزة عكاظ الدولية للسرد العربي.
إقرأ أيضاً: التراث السعودي: استكشاف عناصر الثقافة والتاريخ والموروث الشعبي
فعاليات سوق عكاظ
يُعدُّ سوق عكاظ من أبرز الفعاليات الثقافية والسياحية في المملكة العربية السعودية، وتُقام هذه الفعالية السنوية في مدينة الطائف، وتجمع بين الأصالة والتراث العربي والإسلامي وبين التحديث والعروض الحديثة، وأهم الفعاليات في سوق عكاظ : (المسابقات الشعرية والأدبية، والعروض المسرحية، والأسواق الحرفية مثل السدو، وصناعة الفخَّار، والنسيج، ومشاهدة عروض الخيل والمبارزة، وحدث الحضارة القديمة “إحياء الحياة العربية القديمة”، وزيارة الأماكن الأثرية، ومعرض الكتاب وغيرها من الفعاليات).
شعراء سوق عكاظ في الجاهلية
اشتهر عدد من الشعراء في سوق عكاظ في الجاهلية، والذين كانوا يجتمعون ويتنافسون في الشعر، ويشاركون في المنافسات الأدبية والجلسات الشعرية، وأبرز هؤلاء الشعراء:
1. “النابغة الذبياني”
ترأَّس الجلسات الأدبية والمنافرات الشعرية في سوق عكاظ، وحكمَ على الأشعار.
2. “عمرو بن كلثوم”
كان شاعراً معروفاً بين الحاضرين في سوق عكاظ، وقد ألقى قصائده الشهيرة هناك.
3. “حسان بن ثابت”
شارك في المجالس الأدبية والشعرية في سوق عكاظ، ولُقِّبَ بـ “سيِّد الشعراء” و”شاعر رسول الله” في الإسلام.
4. “الخنساء”
ألقَت الشاعرة “تماضر بنت عمرو بن الشريد” قصائدها في سوق عكاظ، ومنها قصائدها في الرثاء.
من الشعراء أيضاً “عنترة بن شداد”، و”زهير بن أبي سلمى”، و”امرؤ القيس”، و”طرفة بن العبد”، و”الأعشى”، و”قس بن ساعدة”.
سوق عكاظ للشعر
أُعيد إحياء سوق عكاظ في العصر الحديث إحياءً يتناسب مع العصر الحالي، مع الحفاظ على جوهره الأدبي والثقافي، ومن أبرز فعالياته: مسابقة “شاعر عكاظ” التي تُعد الفعالية الرئيسة للمهرجان، وتهدف المسابقة إلى: الاحتفاء بالشعر العربي الفصيح، وتكريم الشعراء، وتحفيز الإبداع، وذلك من خلال الجوائز المالية والتكريمات.
شروط الاشتراك في المسابقة:
- يجب أن يكون للشاعر ديوان شعري منشور على الأقل.
- يشارك الشعراء بثلاث قصائد تُظهِر مستوى شعرهم ووعيهم الأدبي.
- تُرفَق مقاطع فيديو للشعراء وهم يُلقون قصائدهم.
أصبحت جوائز سوق عكاظ من أبرز الجوائز على مستوى الوطن العربي؛ بفضل قيمتها المعنوية والمادية، ويبلغ مجموع جوائزها (2,470,000) مليونين وأربعمائة وسبعين ألف ريال، وتشمل الجوائز والمسابقات في سوق عكاظ 13 فئة تُغطِّي مجالات متنوعة من الإبداع في الأدب والفنون والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ويأتي في مقدِّمتها “جائزة عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح” (شاعر عكاظ).
تُعدُّ مسابقة “شاعر عكاظ” المسابقة الرئيسة في سوق عكاظ، وتهدف إلى الاعتناء بالشعر العربي الفصيح، وتكريم الشاعر العربي المتميِّز من خلال منحه لقب “شاعر عكاظ”، والمسابقة مفتوحة لكلِّ شاعر عربي لديه نتاج شعري منشور، فيشارك بنص شعري مميَّز باللغة العربية الفصحى وفق شروط محدَّدة، وتُمنَح الجائزة لشاعر واحد فقط، ولا تُقسَّم، وتُحكِّم لجنة من النقَّاد العرب والمختصِّين في الدراسات الأدبية الجائزة.
يحصل الفائز على:
- درع عكاظ لعام المسابقة.
- “بردة “شاعر عكاظ”.
- جائزة مالية مقدارها 300,000 ريالاً سعودياً.
- دعوة لحضور فعاليات سوق عكاظ.
- فرصة إلقاء قصيدته في حفل الافتتاح.
تعاون مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في عام 2019؛ لتنظيم جائزة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح ضمن فعاليات الدورة الـ 13 لسوق عكاظ في الطائف في أغسطس 2019، وفاز الشاعر السعودي “محمد إبراهيم يعقوب” بلقب «شاعر عكاظ»، وجاء الشاعر اليمني “عبد الله عبيد” في المركز الثاني، والشاعر السعودي “شتيوي الغيثي” في المركز الثالث.
أمَّا الفائزون بجائزة “شاعر عكاظ” في الدورات السابقة، فهم:
- “محمد إبراهيم يعقوب”، 2019، السعودية.
- “جاسم محمد الصحيح”، 2018، السعودية.
- “محمد التركي”، 2017، السعودية.
- “محمد محمود العزام”، 2016، الأردن.
- “هزبر محمود علي”، 2015، العراق.
- “المنصف الوهيبي”، 2014، تونس.
- “عيسى جرابا”، 2013، السعودية.
- “روضة الحاج” ، 2012، السودان.
- “شوقي بزيع” 2010، لبنان.
- “عبد الله السلامة”، 2009، سورية.
- “محمد التهامي”، 2008، مصر.
- “محمد الثبيتي” ،2007، السعودية.
في الختام
يُعدُّ سوق عكاظ رمزاً من الرموز الأدبية والثقافية الخالدة في تاريخنا العربي، فهو يربط بين ماضي الأمة العربية المجيد وحاضرها الزاهر، ويمثِّل هذا السوق بتاريخه العريق وفعالياته الحديثة ميداناً لتبادل الأفكار، وتعزيز الإبداع الشعري والأدبي، وهذا يجعله حدثاً ثقافياً لا غنى عنه في العالم العربي، ويُظهر إحياء سوق عكاظ اليوم التزام المملكة العربية السعودية بحفظ تراثها الغني، ونشر الثقافة العربية الأصيلة، ويبقى سوق عكاظ في ظلِّ التطوُّرات المستمرة منصَّة ملهمة تجمع بين الشعراء والأدباء من مختلف أنحاء العالم العربي.