مدينة غاودي رائد الفن المعماري الفريد

في هذا المقال، سنغوص في أعماق برشلونة لنكتشف كيف ساهم غاودي في تشكيل هوية المدينة، وكيف تظل أعماله تمثل رمزاً للابتكار والإبداع. سنستكشف تأثيره على العمارة المعاصرة ونتأمل في الإرث الثقافي الذي تركه وراءه. مع كل صفحة، سنعيد اكتشاف سحر برشلونة، مدينة غاودي، ونتساءل: ماذا يعني أن تكون جزءاً من هذا العالم الخيالي الذي أبدعه عبقري فريد؟
مدينة برشلونة
تقع مدينة برشلونة، عاصمة مقاطعة كاتالونيا ذات الحكم الذاتي، في شمال شرق إسبانيا، وهي تُعتبر ثاني أكبر مدينة في البلاد من حيث عدد السكان، بعد مدريد. تشتهر برشلونة بجمال سواحلها التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، مما يجعل شواطئها وجهة مفضلة للسياح من مختلف أنحاء العالم، حيث يمكنهم الاستمتاع برمالها ومناخها المعتدل.
تتميز المدينة بحيويتها الحديثة، وقد حصلت على تصنيفات مرموقة، حيث اعتُبرت رابع أذكى مدينة في أوروبا، وخامس أفضل مدينة عالمياً من حيث جودة الحياة. لا يمكن الحديث عن برشلونة دون الإشارة إلى شغفها بكرة القدم، فهي تحتضن نادي برشلونة، الذي يُعتبر واحداً من أكبر الأندية في العالم ويستقطب مشجعين من جميع الدول.
تاريخ برشلونة
تتمتع مدينة برشلونة بتاريخ عريق يعود إلى عصور ما قبل الميلاد، حيث أسسها الفينيقيون والقرطاجيون وسُميت في تلك الفترة بـ”بارسينو” تيمناً بالملك القرطاجي “حملقار برقا”.
في القرن الأول قبل الميلاد، أصبحت المدينة تحت حكم الرومان الذين اختاروها عاصمةً لهم، وظلت كذلك حتى القرن الخامس الميلادي عندما احتلها القوط الغربيون وغيروا اسمها إلى “بارسينونا”. في القرن الثامن، سقطت المدينة تحت حكم الموريين الذين استمروا في السيطرة عليها لمدة قرن قبل أن يحتلها الإفرنج.
كانت برشلونة نقطة انطلاق إعادة السيطرة الإسبانية، وتحديداً خلال ما يُعرف بالمَسيرات الإسبانية. في تلك الفترة، تم تقسيم المنطقة إلى مقاطعات، وكانت مقاطعة برشلونة واحدة من أبرزها. في القرن العاشر، بدأ كونت برشلونة ويلفريد المشعر بتطبيق نظام وراثي، وفي عام 988م، استقلت المدينة عن الإمبراطورية الكارولينغية على يد كونت برشلونة بوريل الثاني.
توسعت منطقة برشلونة لتشكل فيما بعد مقاطعة كاتالونيا. في عام 1137م، تزوج كونت برشلونة ريموند برانجيه الرابع من بيترونيلا ملكة أراغون، مما أدى إلى اتحاد كاتالوني-أراغوني امتد نفوذه إلى نابولي وجزيرة سردينيا.
بين عامي 1640 و1659م، شهدت المنطقة الثورة الكتالانية، التي نتجت عن استغلال ملك إسبانيا فيليبي الرابع لثروات المزارعين الكاتالونيين خلال حربه مع فرنسا، مما أدى إلى قتل عدد من القادة الإسبانيين وتحوّل أغاني الثورة إلى النشيد الوطني الكاتالوني.
حصلت كاتالونيا على استقلالها بمساعدة فرنسا، لكنها عادت للخضوع للحكم الإسباني بعد حرب بينها وبين فرنسا. في بداية القرن التاسع عشر، دخل نابليون المدينة ودمر أجزاء واسعة منها خلال حرب استقلال إسبانيا.
في منتصف القرن التاسع عشر، لعبت برشلونة دوراً مهماً في الثورة الصناعية، لتصبح إحدى أهم المدن الصناعية في إسبانيا. شهدت المدينة أول معرض عالمي في عام 1888م، تلاه معرض آخر في عام 1929م.
أعلنت كاتالونيا استقلالها عن إسبانيا في عام 1914م، لكنها أُجبرت على العودة تحت الحكم الإسباني في عام 1925م خلال فترة الديكتاتورية العسكرية. في عام 1979م، تم إعلان كاتالونيا منطقة ذات حكم ذاتي، على الرغم من استمرار تبعيتها للحكومة الإسبانية.
حتى اليوم، تظل المطالبات بالاستقلال قائمة، حيث شهدت المدينة في عام 2012م تظاهرة حاشدة شارك فيها 1.5 مليون شخص يطالبون بالاستقلال، لكن هذه المطالب لم تتحقق بعد.
من هو أنطوني غاودي؟
أنطونيو غاودي (1852 – 1926) هو واحد من أبرز المهندسين المعماريين الإسبان، وُلد في عام 1852 في إحدى مدن كتالونيا. عانى غاودي في طفولته من مرض الروماتزم الذي منعه من اللعب مع أقرانه، مما دفعه إلى قضاء أوقات طويلة في التأمل في الطبيعة ودراسة الحركة والنسب. هذا التفاعل العميق مع العالم من حوله صقل مهاراته الفنية وجعل منه فنانًا موهوباً في الرسم والنحت.
تميز غاودي بتواضعه وإيمانه العميق، حيث أثرت تجربته في دراسة الإنجيل في كنيسة تقع في جبال كتالونيا على رؤيته الفنية، مما زاد من حبه للجمال الطبيعي. في عام 1868، انتقل إلى برشلونة لدراسة الهندسة المعمارية.
انطلق غاودي في مسيرته المهنية من خلال معرض باريس الدولي عام 1879، حيث قوبل تصميمه لخزانة بإعجاب كبير. في هذا المعرض، التقى برجل الأعمال “جيويل”، الذي أصبح شريكه وسانده في تنفيذ العديد من المشاريع المميزة مثل “جويل بافيليون” و”بارك جويل” و”كازا باتلو” و”كازا ميلا”. كان لجيويل أيضاً دور في ترشيحه لاستكمال تصميم “كاتدرائية العائلة المقدسة”، وهو المشروع الذي أصبح رمزاً لفنه المعماري الفريد.
أجمل معالم برشلونة
تعتبر برشلونة من أجمل المدن السياحية في العالم، حيث تجمع بين الفن، التاريخ، والثقافة. إليك أبرز المعالم السياحية التي يجب زيارتها:
1. مشروع بارك جويل
تُعد حديقة غويل واحدة من أشهر المعالم في برشلونة، وتعتبر من أبرز أعمال أنطونيو غاودي، حيث تندمج بشكل رائع مع الطبيعة الجبلية الخلابة المحيطة بها.
في تصميمه لهذه الحديقة، طبق غاودي نظريته الشهيرة التي تقول إن “الخط المستقيم لا وجود له في الطبيعة”، مما جعله يستخدم المنعطفات والمنحنيات بشكل مبتكر.
أضاف إلى الحديقة منحوتات حيوانية وزخارف فريدة تشكل المقاعد والنوافير، وصمم الطرقات بطريقة تُبرز جمال التلال الشديدة الانحدار مع توفير ممرات مشاة منفصلة.
تدعم الحديقة تنوعاً واسعاً من الحياة البرية، بما في ذلك أنواع غير محلية مثل الببغاء، بالإضافة إلى الطيور الأخرى مثل النسر قصير الأصابع. استخدم غاودي ألوانًا جميلة ومتنوعة من الخزف لتزيين المنتزه، مما أضفى عليه طابعاً مميزاً وجذاباً.
عاش غاودي في منزل صغير داخل الحديقة، وقد تم تحويل هذا المنزل الآن إلى متحف يعرض الأثاث الذي صممه. في عام 1984، أعلنت اليونسكو الحديقة موقعاً لتراث عالمي تحت عنوان “أعمال أنطونيو غاودي”، مما يعكس أهميتها الثقافية والفنية.
2. مشروع كازا باتلو
يتجلى الخيال الخصب لأنطونيو غاودي في أحد أعظم تصاميمه المعمارية، الذي يشبه قصيدة شعرية في تفاصيله. تتميز هذه التحفة بتوليفة فريدة من أشكال الحيوانات والانحناءات الراقصة، مستلهمة من العظام والهياكل العظمية.
تكشف الواجهة الأمامية عن قوام وألوان وصور مذهلة تنشط الخيال، وتذكّر بقصص ألف ليلة وليلة والأحلام الطفولية. يحاكي المبنى شكل القواقع البحرية في شرفاته وسقوفه المموجة، مما يخلق إحساسًا بالقصص الخيالية من خلال الألوان التي تعكس انطباعات الحياة وتقلباتها.
تُعتبر أكبر قطعة نحتية في الواجهة هي التي تشكل حدود الشرفات والإطار الذي يحدد المدخل، حيث تشبه عظمة الترقوة، مما يضيف بعداً جسدياً إلى التصميم. وعند رفع النظر إلى الأعلى، يستقبل الزائر تكويناً مختلفاً للسقف الذي يشبه جلد الزواحف. هذا الأسلوب الفريد في استخدام الألوان اللامعة من الخزف المزجج والزجاج يخلق تحفة تدهش كل من يشاهدها.
اكتسب المبنى شهرته من استبعاده للخطوط المستقيمة، واعتماده على الخطوط المنحنية والمتعرجة، مع دمج الفن بالبعد الوظيفي الذي تميز به غاودي. يجسد هذا الطراز عناصر مدرسة الأرت نوفو، التي ظهرت في أوروبا حوالي عام 1890، وكانت تركز على الزخارف المستوحاة من أشكال النباتات والطبيعة.
3. كاتدرائية العائلة المقدسة
في عام 1882، استحوذت جمعية القديس جوزيف على قطعة أرض في برشلونة وكلفت المعماري فرانسيسكو دي فيلار بتصميم المشروع. ولكن بعد عام، استقال دي فيلار بسبب خلافات مع الجمعية، مما دفعهم لتكليف الشاب أنطونيو غاودي، الذي كان في سن الحادية والثلاثين، بإكمال المشروع.
قام غاودي بتغيير التصميم الأساسي وفق رؤيته الإبداعية، مدمجاً الأشكال المتموجة والمنحنيات مع الزخارف والنقوش التي تغطي الكنيسة بالكامل. استلهمت هذه التصاميم من الأسلوب القوطي في بناء الكنائس، مما جعل المشروع قطعة فنية تمزج بين ثلاثة أنماط معمارية: القوطية المتأخرة الإسبانية، الباروك، والآرت نوفو. أصبحت الكاتدرائية واحدة من أهم أعمال غاودي في برشلونة، حيث استندت إلى ثقافات وعناصر تاريخية متنوعة.
جاء المسقط الأفقي للكنيسة فريداً من نوعه، حيث احتفظ بالمخطط التقليدي للكنائس بتصميم صليبي، مع صحن مكون من خمسة ممرات وجناح من ثلاثة ممرات. تشتمل الكنيسة على سبع مصليات، مع ممرات مزدوجة وثلاث بوابات وثلاث واجهات، وتبلغ أبعادها 90 متراً في 60 متراً، مع ارتفاع متوقع للبرج الأخير يصل إلى 170 متراً عند الانتهاء.
تحتوي الكنيسة على قبة رئيسية بارتفاع 170 متراً، وتتميز بأربع واجهات رئيسية تحمل رمزية خاصة، بما في ذلك واجهة الميلاد وواجهة الحياة وواجهة الآلام.
تضم الكنيسة أيضًا 12 برجاً تمثل الرسل الاثني عشر، وتتشابه في تصميمها مع الأصداف البحرية، مع نهايات تحتوي على أشكال نباتية طبيعية. أعطى غاودي لنوافذ الكنيسة طابعاً خاصاً، مستلهماً من العمارة الإسلامية فكرة الزجاج الملون، مما أضفى إحساساً بالقدسية والشموخ.
من الداخل، اعتمد على الخطوط المموجة والأشكال المنحنية، مع أعمدة ذات شكل شجري لتعزيز الاندماج مع الطبيعة. بدأ غاودي العمل على الكنيسة في سن 31 واستمر حتى وفاته في عام 1926، حيث توقف العمل في عام 1936 خلال الحرب الأهلية الإسبانية، مما أدى إلى فقدان معظم المخططات.
رغم محاولات بعض العمال لإكمال المشروع، واجهوا معارضة من 100 معماري معروف، مثل لوكوربوزيه والتر غروبيس، الذين طالبوا بالتوجه نحو الحداثة أو تحويل المشروع إلى متحف. ومع ذلك، رفضت الحكومة المحلية هذه المطالب واستمرت في العمل وفق مخطط غاودي، مع تحديد عام 2026 موعدًا للافتتاح في الذكرى المئوية لوفاته.
اعتبرت اليونسكو بين عامي 1984 و2005 سبعة من أعمال غاودي مواقع تراث عالمي، وتستقطب الكنيسة سنوياً حوالي 3 ملايين سائح. لم يكن غاودي مجرد جزء من العمارة الحديثة، بل شكل مدرسة مستقلة فريدة، محدثاً تحولًا كبيراً في عالم التصميم المعماري، حيث تجاوز التقاليد السائدة وخلق مزيجاً مميزاً بين الطابع الروحي للعمارة وتعاليم الحداثة.
4. مشروع كازا ميلا
تكسى المبنى من الخارج بجدران حجرية مزينة بشرفات حديدية على واجهات متموجة، مع نوافذ كبيرة تسمح بدخول الضوء الطبيعي. على السطح، تبرز المداخن التي تشبه المخلوقات السريالية، مما يجعل المبنى يبدو كقطعة فنية في عالم الهندسة المعمارية. أصبح هذا التصميم علامة بارزة لعمارة برشلونة، وأعلنت اليونسكو لاحقاً أنه موقع للتراث العالمي، مما أتاح فتحه للجمهور.
ما يميز هذا المبنى بشكل خاص هو تصميمه المبتكر، الذي يتخذ شكل مبنيين مقوسين يتحدان عند الأطراف ليشكلا هيكلًا دائرياً مجوفاً من الداخل، مما يسهم في توصيل الضوء الطبيعي إلى جميع الغرف.
واجهته المميزة، التي تتكون من الحجر والحديد مع شرفات مموجة، تعكس تعقيد التصميم والتنفيذ، الذي كان يتطلب متطلبات خاصة للغاية، مما جعله تحدياً حقيقياً في تلك الفترة.
في الختام
تظل برشلونة، مدينة غاودي، رمزاً للفن المعماري الفريد الذي يجسد الإبداع والابتكار. إن استكشاف المدينة هو دعوة لاكتشاف جمال الفن المعماري والروح الإبداعية التي تلهم الأجيال. إذا كنت تبحث عن تجربة تجمع بين التاريخ والجمال، فلا تفوت زيارة برشلونة، حيث ينتظرك عالم من السحر والإلهام.