رؤى مستقبلية لتطوير المدن المستدامة

لم تعد الهندسة المعمارية حرفةً تُعنى بالأبنية، إنّما فعل ثقافي، وسياسي، وبيئي يعيد تشكيل الذاكرة والمصير.
نستعرض، في هذا المقال، أبعاد هذه المناسبة العالمية، ونكشف كيف يمكن للهندسة المعمارية أن تسهم فعلياً في بناء مستقبل حضري متوازن.
ما هو اليوم العالمي للهندسة المعمارية؟
يُعد اليوم العالمي للهندسة المعمارية مناسبة سنوية ينظمها الاتحاد الدولي للمعماريين، لتسليط الضوء على الدور الحيوي الذي تؤديه العمارة في تشكيل المجتمعات وتحفيز النقاش العالمي حول مسؤوليات المعماريين في مواجهة التحديات المعاصرة.
ولا تقتصر هذه المناسبة على الاحتفاء بالمهنة، وإنما تمثل مساحة للتأمل في الإمكانات التي تحملها الهندسة المعمارية لإحداث تغيير إنساني وبيئي على مستوى العالم.
وتعود بدايات هذا الحدث إلى مؤتمر دولي للمهندسين المعماريين الذي عُقد في لندن في عام 1946؛ حيث طُرحت فكرة تأسيس منظمة عالمية تُعنى بشؤون المعماريين.
وبعد عامين فقط، تأسس الاتحاد الدولي للمهندسين المعماريين (UIA) في مدينة لوزان السويسرية في 28 يونيو/حزيران لعام 1948، كمنظمة غير ربحية تضع في صلب اهتماماتها تطوير العمارة بما يخدم الإنسان والبيئة على حد سواء.
وبعد مرور ما يُقارب الـ 37 عاماً على تأسيس الاتحاد، وتحديداً في مؤتمر في عام 1985، تم اعتماد فكرة اليوم العالمي للهندسة المعمارية، وحُدّد الأول من يوليو/تموز موعداً رسمياً للاحتفال.
لاحقاً، خلال القمة العشرين للاتحاد في برشلونة في عام 1996، نُقل الموعد إلى أول يوم اثنين من شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، ليُقام بالتزامن مع «اليوم العالمي للموئل» الذي تنظمه الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من هذا التغيير، لا تزال عديدٌ من الدول تحتفل بهذا اليوم في الأول من يوليو، ثم تعود لإحيائه مرةً أخرى في أكتوبر، تأكيداً على الامتداد الرمزي والعملي لأهمية هذه المناسبة في أكثر من وقت وسياق.
إذاً؛ يُعد اليوم العالمي للهندسة المعمارية مناسبةً سنويةً أطلقها الاتحاد الدولي للمعماريين لتسليط الضوء على دور المعمار في مواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية حول العالم.
كيف تؤثر الهندسة المعمارية في مستقبل المدن؟
تؤدي الهندسة المعمارية دوراً هاماً في رسم ملامح مستقبل المدن، ليس فقط من خلال ما يُرى من مبانٍ وهياكل، وإنما من خلال تأثيرها العميق في حياة الناس وصحتهم النفسية.
حيث أثبتت أبحاث منشورة في مجلات علمية مرموقة، مثل World Health Design، وHERD، وEnvironmental Behavior، أنّ التصميم المعماري المدروس يخلق بيئات مريحة تُخفف التوتر وتُعزز الشعور بالسكينة والاستقرار، في حين قد يؤدي التخطيط العشوائي إلى الانزعاج والارتباك، وهو ما ينعكس سلباً على الصحة العقلية.
ومن هذا المنطلق، تؤثر العمارة في مستقبل المدن على مستويات متعددة؛ فهي:
- تُحدد شكل المدينة ووظائفها، وتوفّر مساكن ومرافق أساسية تُحسّن جودة الحياة.
- تدعم الاستدامة في التصميم العمراني من خلال استخدام مواد وتقنيات تقلّل استهلاك الموارد.
- تُعد أيضاً محركاً اقتصادياً لجذب الاستثمارات وتعزيز النمو، إلى جانب دورها في دمج التكنولوجيا الحديثة وتطوير المباني الذكية.
- أما من الناحية الثقافية والبيئية؛ فهي تساهم في الحفاظ على التراث المعماري، وتُسهم في الحد من التلوث من خلال تصميم بيئات خضراء وصحية.
ومن هنا تأتي أهمية اليوم العالمي للهندسة المعمارية، كونه يمنح الفرصة لإعادة تخيل المدن كأماكن أكثر إنسانية وتوازناً.
تؤدي الهندسة المعمارية دوراً محورياً في صياغة مدن المستقبل من خلال مفاهيم الاستدامة، وتحسين الكفاءة الطاقية، والتكامل مع التكنولوجيا.
واقع العمارة في الوطن العربي
يشهد واقع العمارة في الوطن العربي تحوّلاً عمرانياً متسارعاً يعكس الطموحات الوطنية لتطوير بيئات حضرية حديثة ومتقدمة، تجسد توازناً بين التراث والابتكار.
وتجسدت هذه التحولات في مشاريع فعلية بارزة مثل العاصمة الإدارية الجديدة في مصر التي تسعى إلى استحداث بيئة عمرانية ذكية ومتطورة تلبي متطلبات القرن الحادي والعشرين.
ورغم هذه الإنجازات، تواجه العمارة في المنطقة تحديات متعددة تشمل تشريعات غير متكاملة، قيود تمويلية، وحاجة ملحة لتطوير التعليم المعماري ليواكب التطورات التقنية والمستدامة. وتتطلب هذه التحديات جهوداً منسقة لتعزيز إطار عمل يدعم الابتكار ويحفظ الخصوصية الثقافية.
وفي المقابل، تبرز فرص واعدة تتمثل في دعم مبادرات الاستدامة التي تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والبيئة، بالإضافة إلى إشراك المجتمعات المحلية في عملية التخطيط والتصميم العمراني، ما يضمن استمرارية ونجاح المشاريع على الأمد الطويل.
وفيما يلي إليك أمثلة عن مشاريع معمارية عربية بارزة:
1. مشروع نيوم
في قلب التحولات المعمارية التي يشهدها الوطن العربي، يبرز مشروع نيوم كواحد من أكثر المبادرات طموحاً وتجدداً في تاريخ المنطقة. حيث أُطلق هذا المشروع في عام 2017 بمبادرة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، ويقوده صندوق الاستثمارات العامة بهدف تحويل صحراء شمال غرب المملكة إلى مدينة مبتكرة قائمة على الطاقة المتجددة بنسبة 100%.
ويحمل نيوم تصوراً غير تقليدي لمستقبل المعيشة والعمل والازدهار؛ إذ تتقدّم التقنية جنباً إلى جنب مع احترام البيئة، وتُصمَّم المدينة لتُمكّن البشرية من التقدّم دون الإضرار بصحة الكوكب.
ومن خلال رؤية السعودية لعام 2030، يتم وضع أسس جديدة لعمارة تُصمم من أجل الإنسان، وتُبنى على وعيٍ عميق بالبيئة، وتفتح آفاقاً جديدة لحياة تتسم بالمرونة والاحترام المتبادل بين الحاضر والمستقبل.
2. متحف اللوفر أبوظبي
يمثل متحف اللوفر أبوظبي علامة فارقة في المشهد الثقافي والمعماري في الوطن العربي، ويعكس كيف يمكن للهندسة المعمارية أن تكون جسراً حضارياً بين الشرق والغرب.
حيث صُمم المتحف من قبل المعماري الفرنسي الشهير جان نوفيل، وافتُتح رسمياً في 8 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017، قبل أن يفتح أبوابه للجمهور بعد ثلاثة أيام فقط، بعد أن استغرق بناؤه ما يقارب عشر سنوات من العمل المتواصل.
ويقع المتحف في قلب جزيرة السعديات في أبوظبي، ويضم ما يُقارب الـ 600 عمل فني دائم العرض، إلى جانب 300 عمل آخر مُعار من فرنسا مؤقتاً، ما يمنح الزائرين تجربة بصرية وإنسانية عابرة للثقافات.
كما يتميّز المبنى بقبّة شبكية ضخمة تُدخل ضوء الشمس مفلتراً، في محاكاة شعرية لما يُعرف بـ”أمطار الضوء”؛ إذ تتفاعل العمارة مع مناخ الصحراء، وتخلق مناخاً داخلياً يجمع بين الدفء والسكينة.
يشهد العالم العربي تحوّلاً عمرانياً سريعاً، لكنّه يحتاج إلى دمج أعمق بين العمارة المحلية ومتطلبات المدن الذكية والاستدامة.
كيف يغير الذكاء الاصطناعي مستقبل العمارة؟
يشهد مجال الهندسة المعمارية في الوطن العربي تحوّلاً نوعياً بفضل إدماج الذكاء الاصطناعي، الذي بات يؤدي دوراً محورياً في مراحل التصميم والبناء والتخطيط الحضري.
وفي مرحلة التصميم، تُستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المتعلقة بالمساحة والمناخ والوظائف الجمالية، وتوليد مقترحات تصميمية دقيقة في إطار ما يُعرف بـ”التصميم التوليدي”، ما يسرّع من وتيرة الابتكار ويُحسّن جودة المشاريع.
كما يُسهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق كفاءة الطاقة داخل المباني، من خلال ضبط أنظمة التكييف والإضاءة بناءً على البيانات البيئية، وهو ما تجسده تقنيات المباني الذكية التي تخلق مساحات تفاعلية تلائم احتياجات المستخدمين وتقلل استهلاك الطاقة.
أما في مواقع البناء، أصبحت الآلات الذكية عنصراً رئيساً في تنفيذ المهام بدقة وسرعة، ما يحدّ من الأخطاء ويُقلل التكاليف. كذلك، ساعد الذكاء الاصطناعي في العمارة على تطوير مواد بناء محسّنة تجمع بين المتانة والخفة والاستدامة.
وعلى صعيد التخطيط الحضري، فيُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات السكان والمرور والمناخ، ما يساعد في تصميم مدن أكثر مرونةً واستجابةً لاحتياجات السكان، وتحقيق جودة حياة أعلى.
يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين التصميمات، وتسريع عمليات النمذجة، واقتراح حلول مستدامة وفعالة في العمارة.
ماذا نتعلم من اليوم العالمي للهندسة المعمارية؟
في اليوم العالمي للهندسة المعمارية، يُسلّط الضوء على الدور العميق للتصميم المعماري في تحسين جودة الحياة، من خلال المظهر، وتأثيره المباشر في الأفراد والمجتمعات.
حيث يؤكد المهندس فايز جزماتي أنّ “التصميم المعماري يُحدد حيثيات المكان وتأثيره في المستخدم والزائر والمجتمع والدولة والعالم”، ما يعكس البُعد الإنساني الشامل للعمارة.
واليوم، تبرز الحاجة إلى مدن أكثر استدامة ومرونة، كما يظهر في نماذج عربية متقدمة، مثل المباني الخضراء في الإمارات. وفي المقابل، يُتيح الميتافيرس آفاقاً غير محدودة للتجريب والتصميم خارج القيود المادية؛ إذ يرى جزماتي أنّه “يجعل من العمارة فناً متحرراً من الجاذبية أو ميزانيات المشروع”، ما يوفر فرصة لتطوير حلول مستقبلية تُختبر رقمياً قبل تنفيذها على أرض الواقع.
يُعد هذا اليوم منصةً لمراجعة دور العمارة عالمياً، وتوجيه السياسات نحو بيئة مبنية أكثر استدامة ومرونة.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
1. ما هو اليوم العالمي للهندسة المعمارية؟
مناسبة سنوية تهدف لتسليط الضوء على أهمية العمارة عالمياً.
2. كيف تساهم العمارة في بناء المدن الذكية؟
من خلال تصميم بيئات مستدامة ومرتبطة بالبيانات والتقنيات.
3. هل الذكاء الاصطناعي يهدد دور المعماري؟
لا، بل يدعمه ويوفر أدوات لتحسين الإنتاجية والدقة.
4. ما أبرز التحديات في العالم العربي؟
ضعف التشريعات، نقص الدعم للمعماريين، فجوة بين التعليم والممارسة.
5. كيف أستفيد من اليوم العالمي للهندسة المعمارية كممارس؟
بالنشر، وحضور المؤتمرات، والمشاركة في النقاشات المهنية.
في الختام، يُشكّل اليوم العالمي للهندسة المعمارية دعوة مفتوحة لكل من يعمل أو يهتم بهذا المجال، ليكون جزءاً من التغيير الحقيقي في مدننا وحياتنا. إنّها فرصة لكل مهندس ومعماري ومخطط ومحب للتطوير أن يضع بصمته في عالم يتغيّر بسرعة، ويحتاج إلى عقول تُبدع، وقلوب تُحسّ، وحلول تنبض بالمسؤولية.