معاهدة وادي عربة : قصة معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن

معاهدة وادي عربة للسلام بين إسرائيل والأردن، التي وقّعت في 26 أكتوبر 1994، إنجازًا بارزًا في تاريخ الشرق الأوسط المضطرب. هذه المعاهدة، المعروفة رسميًا باسم “معاهدة السلام بين دولة إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية”، أنهت عقودًا من العداء ووضعت سابقة للمصالحة الدبلوماسية في منطقة طالما عُرفت بالصراعات. بمساندة دولية كبيرة، خاصة من الولايات المتحدة، كانت المعاهدة خطوة جريئة نحو الاستقرار، حيث عززت التعاون في مجالات مثل تقاسم المياه، والعلاقات الاقتصادية، وأمن الحدود.
السياق التاريخي لـ معاهدة وادي عربة

لفهم معاهدة وادي عربة بشكل كامل، يجب أولاً فهم الخلفية التاريخية التي وقّعت ضدها. لطالما كان الشرق الأوسط بمثابة بوتقة للمصالح الوطنية المتنافسة، والتوترات الدينية، والنزاعات الإقليمية. كانت إسرائيل والأردن، الجارتان اللتين تشتركان في حدود طويلة، متورطتين في هذه الشبكة المعقدة منذ تأسيس إسرائيل في عام 1948. حرب 1948 العربية الإسرائيلية، التي تلت إعلان استقلال إسرائيل، شهدت انضمام الأردن، المعروفة آنذاك باسم شرق الأردن، إلى دول عربية أخرى في معارضة الدولة الجديدة. سيطرت الأردن على الضفة الغربية والقدس الشرقية خلال هذا الصراع، وهي الأراضي التي ظلت تحت سيطرتها حتى حرب الأيام الستة في عام 1967، عندما استولت إسرائيل عليها. خلقت هذه التاريخ من الحروب والنزاعات الإقليمية عدم ثقة عميق الجذور بين الأمتين.

على الرغم من هذه التوترات، غالبًا ما اتخذت المملكة الهاشمية في الأردن، بقيادة الملك الحسين، موقفًا أكثر براغماتية مقارنة بالدول العربية الأخرى. حدثت لقاءات سرية بين القادة الأردنيين والإسرائيليين في وقت مبكر من الستينيات، مما يعكس الإدراك المتبادل بأن التعايش قد يكون مفضلاً على الصراع المستمر. ومع ذلك، فإن الصراع العربي الإسرائيلي الأوسع، إلى جانب الضغوط الداخلية داخل الأردن – حيث يشكل جزء كبير من السكان من أصل فلسطيني – جعل الدبلوماسية العلنية معقدة. مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، الذي جمع إسرائيل وعدة دول عربية إلى طاولة المفاوضات، مهد الطريق لمناقشات أكثر رسمية. واتفاقيات أوسلو عام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية مهدت الطريق أيضًا، حيث أشارت إلى تحول إقليمي نحو الحوار. بالنسبة للأردن، قدمت اتفاقيات أوسلو غطاءً سياسيًا لمتابعة السلام مع إسرائيل دون أن يبدو أنها تخون القضية الفلسطينية.
الطريق إلى المعاهدة: المفاوضات واللاعبون الرئيسيون

لم يكن الطريق إلى معاهدة وادي عربة سريعًا أو مباشرًا. بدأت المفاوضات بجدية بعد مؤتمر مدريد، مع إجراء محادثات ثنائية في واشنطن العاصمة بوساطة أمريكية. برز الملك الحسين ملك الأردن ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين كشخصيتين مركزيتين في هذه العملية، حيث جلب كل منهما مزيجًا من البراغماتية والرؤية إلى الطاولة. رأى الملك الحسين، المعروف ببراعته الدبلوماسية، السلام مع إسرائيل كوسيلة لتأمين الاستقرار الاقتصادي والسياسي للأردن. أما رابين، القائد العسكري السابق الذي تحول إلى صانع سلام، فقد رأى في المعاهدة خطوة حاسمة نحو تطبيع علاقات إسرائيل مع جيرانها.

لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا كميسر. قدمت إدارة الرئيس بيل كلينتون حوافز دبلوماسية واقتصادية، بما في ذلك تخفيف الديون للأردن وضمانات الدعم العسكري المستمر لكلا البلدين. كانت المفاوضات معقدة، وتناولت قضايا شائكة مثل ترسيم الحدود، وحقوق المياه، ووضع اللاجئين الفلسطينيين. كانت إحدى النقاط الخلافية الكبرى هي ترسيم الحدود، خاصة في وادي عربة، حيث كانت هناك حاجة إلى تعديلات طفيفة لتعكس الواقع العملي على الأرض. كما كانت مشاركة المياه قضية حاسمة أخرى، نظرًا لندرة هذا المورد الحيوي في المنطقة. أصبح نهر الأردن، الشريان الحيوي المشترك، محورًا للمفاوضات، حيث سعى الطرفان إلى الوصول إلى تخصيص عادل.
كما شكلت الرأي العام في كلا البلدين المحادثات. في إسرائيل، كان احتمال السلام مع الأردن موضع ترحيب واسع، حيث وعد بفرص اقتصادية وتقليل التهديدات الأمنية على الحدود الشرقية. ومع ذلك، في الأردن، واجهت معاهدة معاهدة وادي عربة مقاومة ولا تزال من الشريحة الكبرى من السكان، خاصة من أصل فلسطيني الذين خافوا من أنها قد تقوض تطلعاتهم إلى إقامة دولة. تنقل الملك الحسين هذه الضغوط الداخلية بعناية، مؤكدًا على فوائد المعاهدة لاقتصاد الأردن والاستقرار الإقليمي. بحلول يوليو 1994، تم توقيع اتفاقية أولية، تُعرف بإعلان واشنطن، مهدت الطريق للمعاهدة النهائية. أكد هذا الإعلان، الذي شهده الرئيس كلينتون، إنهاء الأعمال العدائية وحدد المبادئ لسلام شامل.
الأحكام الرئيسية لـ معاهدة وادي عربة

معاهدة وادي عربة هي وثيقة شاملة تتناول مجموعة واسعة من القضايا، من الأمن إلى التعاون الاقتصادي. وقّعت في معبر وادي عربة بحضور شخصيات دولية، وتتكون المعاهدة من 30 مادة وخمسة ملاحق، تغطي كل شيء من العلاقات الدبلوماسية إلى حماية البيئة. فيما يلي بعض الأحكام الرئيسية التي شكلت العلاقة الدائمة بين البلدين:
- إنهاء الأعمال العدائية والعلاقات الدبلوماسية: أنهت معاهدة وادي عربة رسميًا حالة الحرب بين إسرائيل والأردن، وأسست علاقات دبلوماسية كاملة. وافق كلا البلدين على تبادل السفراء وفتح السفارات، مما يمثل تحولًا كبيرًا من عقود من العداء إلى الاعتراف الرسمي.
- ترسيم الحدود: وضحت الاتفاقية الحدود الدولية بين البلدين، وحلّت النزاعات حول أراضي صغيرة في وادي عربة وبالقرب من البحر الميت. اعترفت المعاهدة بسيادة الأردن على مناطق معينة كانت تحت السيطرة الإسرائيلية سابقًا، مع أحكام لتأجير الأراضي لتلبية احتياجات المزارعين الإسرائيليين.
- تقاسم المياه: نظرًا للمناخ الجاف في المنطقة، كان تخصيص المياه حجر الزاوية في المعاهدة. حددت الاتفاقية خطة مفصلة لتقاسم مياه نهري الأردن واليرموك. وافقت إسرائيل على تزويد الأردن بـ 50 مليون متر مكعب من المياه سنويًا من نهر الأردن، بينما منحت الأردن إسرائيل الوصول إلى موارد المياه الجوفية المعينة.
- التعاون الأمني: التزم كلا البلدين بمنع الإرهاب عبر الحدود والتعاون في الأمور الأمنية. شمل ذلك جهودًا مشتركة لمكافحة التهريب والحفاظ على الاستقرار على طول حدودهما المشتركة، التي تمتد لأكثر من 400 كيلومتر.
- العلاقات الاقتصادية والثقافية: شجعت المعاهدة التجارة، والسياحة، والتبادلات الثقافية. ووضعت الأساس لمشاريع اقتصادية مشتركة، مثل تطوير وادي الأردن وإقامة مناطق صناعية عبر الحدود. حصلت السياحة، خاصة إلى مواقع مثل البتراء في الأردن والقدس في إسرائيل، على دفعة كبيرة.
- قضايا اللاجئين: بينما لم تحل المعاهدة مسألة اللاجئين الفلسطينيين بشكل كامل، فقد تضمنت التزامًا بمعالجة هذه القضية ضمن إطار عملية السلام العربية الإسرائيلية الأوسع. جعل عدد السكان الفلسطينيين الكبير في الأردن هذه قضية حساسة، وتجنبت المعاهدة التزامات محددة قد تثير استياء الدوائر الداخلية.
صيغت هذه الأحكام لخلق إطار للسلام الدائم، موازنة بين الاحتياجات العملية الفورية والتطلعات طويلة الأمد للاستقرار الإقليمي. عكس تركيز المعاهدة على المنفعة المتبادلة – سواء من خلال تقاسم المياه أو التعاون الاقتصادي – نهجًا براغماتيًا لبناء السلام.
تحديات معاهدة السلام والجدل المثار حولها

على الرغم من أن معاهدة وادي عربة كانت انتصارًا دبلوماسيًا، إلا أنها لم تخلُ من التحديات. في الأردن، استمر المعارضة العامة للمعاهدة، خاصة بين أولئك الذين يرونها كتسوية لحقوق الفلسطينيين. حدثت احتجاجات ومطالبات بإلغاء المعاهدة بشكل دوري، خاصة خلال فترات التوترات الإسرائيلية الفلسطينية المتصاعدة. عكس البرلمان الأردني، الذي يعبر عن الرأي العام، أحيانًا انتقادات للاتفاقية، على الرغم من بقاء المملكة ملتزمة بها بثبات.
كان تحديًا آخر هو تنفيذ بعض الأحكام، خاصة تقاسم المياه. نشأت نزاعات حول تخصيصات المياه خلال فترات الجفاف، حيث اتهم الأردن إسرائيل بعدم الوفاء بالتزاماتها. تؤكد هذه التوترات صعوبة إدارة الموارد المشتركة في منطقة تُعتبر المياه فيها سلعة نادرة ومشحونة سياسيًا.
كما واجهت الوعود الاقتصادية لمعاهدة وادي عربة عقبات. بينما نمت التجارة والسياحة، لم تتحقق الانتعاشة الاقتصادية المتوقعة بالكامل بالنسبة للأردن. خلقت المناطق الصناعية المؤهلة (QIZs) وظائف، لكنها لم تحول اقتصاد الأردن كما كان يأمل البعض. في الوقت نفسه، في إسرائيل، طغت الصراعات المستمرة مع جيران آخرين، خاصة الفلسطينيين، على تأثير المعاهدة الإقليمي الأوسع.
كان اغتيال إسحاق رابين في عام 1995، بعد عام واحد فقط من توقيع معاهدة وادي عربة ، نكسة كبيرة. أرسل مقتل رابين على يد متطرف إسرائيلي معارض لعملية السلام موجات صدمة عبر المنطقة، مما أثار مخاوف من أن المعاهدة قد تتعثر. ومع ذلك، ضمن التزام الملك الحسين، إلى جانب دعم القادة الإسرائيليين اللاحقين، بقاءها.
التأثير الدائم للمعاهدة على الشرق الاوسط

تظل معاهدة وادي عربة واحدة من أكثر الإنجازات ديمومة في الدبلوماسية الشرق أوسطية. على عكس معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، التي وُصفت غالبًا بـ “السلام البارد” بسبب التفاعل العام المحدود، عززت العلاقة بين الأردن وإسرائيل تعاونًا ملموسًا. تُظهر المشاريع المشتركة، مثل مشروع نقل مياه البحر الأحمر-البحر الميت (الذي تم التخلي عنه لاحقًا)، والتعاون الأمني المستمر، التأثير العملي للمعاهدة. كما سهّل الحدود المفتوحة السياحة، حيث يزور آلاف الإسرائيليين البتراء ويصل الأردنيون إلى المواقع الدينية في القدس.
بالنسبة للأردن، عززت معاهدة وادي عربة موقعها كفاعل مستقر في منطقة مضطربة. عزز قرار الملك الحسين الجريء بمتابعة السلام مكانة الأردن الدولية، مؤمنًا الدعم الاقتصادي والعسكري من الولايات المتحدة وحلفاء غربيين آخرين. بالنسبة لإسرائيل، قدمت المعاهدة حدودًا شرقية آمنة، مما سمح لها بتركيز الموارد على جبهات أخرى. كما وضعت المعاهدة سابقة للتطبيع، مؤثرة في اتفاقيات لاحقة مثل اتفاقيات إبراهيم في عام 2020.

ومع ذلك، يتم تهدئة نجاح المعاهدة بحدودها. لم تحل الصراع العربي الإسرائيلي الأوسع، خاصة القضية الإسرائيلية الفلسطينية، التي تستمر في إجهاد العلاقات الأردنية الإسرائيلية. يظل الرأي العام في الأردن متشككًا، وغالبًا ما تطغى التوترات الإقليمية على فوائد المعاهدة. ومع ذلك، فإن حقيقة أن المعاهدة استمرت لأكثر من ثلاثة عقود، متجاوزة الاضطرابات السياسية والأزمات الإقليمية، هي شهادة على مرونتها.




