سياحة و سفر

أدب الرحلات أهميته وخصائصه


إنَّ التقرير الذي يقدمه لنا المؤثِّرون عن البلدان من خلال منصاتهم يشبه في الأدب ما يدعى أدب الرحلات، هذا اللون الذي يُعدُّ وسيلة الرحالة في الحديث عما خبروه في رحلاتهم، والذي كان “ابن بطوطة” واحداً من أشهر أعلامه، وأنا أجزم أنَّك قد سمعت باسمه في المدرسة أو في إشارة من صديقك عن كثرة تنقلاتك، إنَّ أدب الرحلات وأهميته وخصائصه هو عنوان مقالنا لهذا اليوم، فمرحباً بقراءتكم.

ما هو أدب الرحلات؟

يمكن تعريف مصطلح أدب الرحلات على أنَّه اللون الأدبي الذي كان يستخدمه الرحالة في كتابة مؤلفاتهم خلال أسفارهم، والذي كانوا يصفون فيه تنقلاتهم والمحطات التي نزلوا فيها، والطبيعة السائدة وشكل الأشجار والمناخ، كما كانوا يتحدثون عن الشعوب التي قابلوها والمواقف الطريفة أو العصيبة التي مروا بها، والتي كانت تستحق الذكر من وجهة نظرهم، فضلاً عن العادات والتقاليد لدى الشعوب المختلفة، وعن طعامهم ولباسهم والطابع المميز في حياتهم.

غالباً ما كان يقصد الرحالة أرضاً جديدة لتكون مادتهم الناتجة فريدة وغير مطروقة، ويشتمل أدب الرحلات أو أدب الرحلة على مدونات ومؤلفات ومخطوطات وتوثيقات شخصية للغرائب من الأحداث والظواهر، الأمر الذي عُدَّ الوسيلة الأكثر دقة لنعرف عن أحوال الشعوب فيما كان غابراً من الزمان.

تاريخ أدب الرحلة:

إنَّ تاريخ أدب الرحلة العربي عريق ومجيد، فهذا اللون الأدبي يُعدُّ من أقدم ألوان الأدب عند العرب، والذي كان يلاقي رواجاً وترحيباً كبيراً من قبلهم، فكانوا يسيرون الرحلات الاستكشافية للاطلاع على المناطق الجديدة والبلدان المحيطة.

يذخر تاريخ أدب الرحلات العربي بأعلام شهيرة على رأسها ابن بطوطة والإدريسي والمسعودي وابن جبير وابن فضلان، ولقد حرص هؤلاء على توثيق رحلاتهم بحرفية وأمانة، كما حرصوا على تدوين القصص التي حدثت معهم في كل مكان ذهبوا إليه، واهتم قسم منهم بالجغرافيا، وحرص على رسم الخرائط التي تصوِّر التضاريس، وتحتوي نقاط العلامة التي تعرفوا عليها.

لمعت مكانة أدب الرحلات في البلاد العربية والإسلامية في القرن السادس للهجرة تحديداً، وشهد هذا اللون الأدبي نهضة لا مثيل لها، وتضمَّن قصصاً عديدة ألَّفها الرحالة العرب خلال تنقلاتهم المنطلقة من الجزيرة العربية، والمتوجهة إلى أصقاع الأرض المحيطة بهم من أجل السبر والاستكشاف.

لقد توجه بعض الرحالة إلى شمال إفريقيا، وتوجَّه قسم آخر إلى الأندلس، وتوجَّه قسم من الرحالة ممن لم يقطنوا الجزيرة إليها؛ بهدف أداء مناسك الحج والتعرف إلى الحضارة العربية والإسلامية العريقة التي كانت موجودة في تلك المنطقة.

ذخر أدب الرحلات العربي بقصص الرحالة العرب الذين انتشروا في مشرق الأرض ومغربها في القرن السادس عشر للهجرة، واكتشفوا مناطق جديدة لم يسبقهم أحد في اكتشافها، وأرَّخت قصص الرحالة في تلك الحقبة أحداث تاريخية مفصلية، كما هو الحال عند أحمد الحجري الشهير باسم أفوقاي، والذي هرب من الأندلس بُعيد سقوطها، ووثَّق كل ما رآه في تلك المرحلة من محاكم تفتيش وممارسات ومشاهد جمعها في كتابه الذي خطَّه عن هذه الرحلة.

أهمية أدب الرحلات:

إنَّ أهمية أدب الرحلات تبدت من خلال جانبين؛ هما الجانب الأدبي والجانب العلمي، وفيما يأتي توضيح لكل منهما:

أهمية أدب الرحلات الأدبية:

إنَّ أهمية أدب الرحلات الأدبية تتجلى من خلال القيمة المضافة التي قدَّمها للأدب العربي، فعلى الرَّغم من أنَّ الرحالة لا يشترط أن يكون أديباً لكي يدوِّن رحلته لنا بأسلوب أدبي، إلا أنَّ الأساليب التي اتبعها الرحالة في توثيق رحلاتهم وقصصهم وألوان الحوار والقص والحكاية والتشويق التي تضمنتها، جعلت من أدب الرحلات صنفاً أدبياً مرموقاً وجنساً من الأجناس النثرية له خصوصية وشعبية بين القرَّاء.

أهمية أدب الرحلات العلمية:

أمَّا أهمية أدب الرحلات العلمية، فظهرت نتيجة كون هذا اللون الأدبي مادة غنية بالعلوم الدينية والتاريخية والجغرافية، فضلاً عن الأشعار والأنساب والقبائل والمعارف المختلفة، وإنَّ هذا هو نتيجة معاينة الرحالة الواقعية للأحداث في أثناء تنقلاتهم واتصالاتهم المباشرة مع الناس في المناطق المقصودة، والتي يوثقونها عن طريق الكتابة.

لذلك نقرأ في أدب الرحلات عن العادات والتقاليد الخاصة بالقبائل، كما نقرأ عن وصف الطبيعة الجغرافية والمناخ والنبات والعمران والممالك والأمصار، ونسمع عن أسماء ملوك وعلماء وحاشية، وأسماء الأطعمة والمساجد الموجودة في المناطق التي قصدها الرحالة، ووثقوها في كتبهم.

شاهد بالفديو: 8 أشياء يجب أن تصطحبها في رحلات السفر الطويلة

 

خصائص أدب الرحلات:

إنَّ خصائص أدب الرحلات هي مجموعة السمات التي تميزه عن غيره من الألوان الأدبية، وهذه الخصائص هي:

الواقعية:

تُعدُّ الواقعية من خصائص أدب الرحلات وركائزه الأساسية، فلا مجال للخيال أو الابتكار في هذا اللون الأدبي، وعلى الكاتب أن يقص أحداثاً حقيقية في أمكنة وأزمنة حقيقية مع أشخاص حقيقيين بعيداً عن أيَّة مبالغة أو تحريف، كما يجب على الكاتب أن يكون أميناً في توثيق الوقائع، وبعيداً عن أيِّ انحياز أو تطرُّف في توصيفه للأحداث والمواقف التي مر بها أو التي كان شاهداً على حصولها.

الذاتية:

تُعدُّ الذاتية أيضاً من خصائص أدب الرحلات، وتعني أن تكون شخصية الكاتب واضحة في النص الأدبي، ويكون هذا عن طريق استخدامه المتكرر لضمائر المتكلم، وتحدُّثه بلسان حاله ورأيه فيما يراه ويسمعه، كما نراه يستخدم ضمائر جمع المتكلم في روايته للأحداث التي يتشارك مع الآخرين بطولتها.

إنَّ ذاتية الكاتب تظهر بجلاء واضح في أدب الرحلات لأنَّه الراوي الأصلي لرحلته، الأمر الذي يكون بمنزلة بصمة شخصية لكلِّ كاتب، والتي تميزه عن كاتب آخر قد خاض معه الرحلة حينها أو في وقت لاحق.

الغنى المعرفي والعلمي:

من خصائص أدب الرحلات غناه العلمي والمعرفي، هذه الخاصية التي تصب في أهمية أدب الرحلات وفوائده؛ فأدب الرحلات يعني انتقالاً من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، وملاحظة عادات الشعوب وتقاليدها، واستعراض ثقافتها الدينية والمعرفية، وهذا ما يُعدُّ مادة علمية دسمة، ناهيك عن المعلومات الجغرافية والأنساب التي يدوِّنها الرحالة خلال تجواله بين المدن.

الجمع بين أجناس أدبية أخرى:

من خصائص أدب الرحلات أنَّه يكون بمنزلة أدب جامع لفنون أدبية أخرى، فقد يدوِّن الرحالة في أدبه أشهر القصائد والأغاني الشعبية في المناطق التي زارها، كما تتنوع فيه أساليب الكاتب بين السرد والنثر والقصة والحوار والحكاية، بما يخدم توصيفه الدقيق للرحلة التي قام بها.

دورة الخطاب:

تعني تحديد نقطة بداية ونقطة نهاية للأحداث، وهي من أهم خصائص أدب الرحلات، وفي هذه الخاصية يبدأ الكاتب بسرد رحلته من نقطة البداية، والتي تكون نقطة انطلاقه في سفره، ثم يتعرج خط سيره وصولاً إلى نقطة الانتهاء؛ إذ يعود إلى المكان الذي انطلق منه ليوثق ما جرى معه، وليستعد لخوض رحلة جديدة والعودة بعدها، وهكذا دواليك.

مكونات أدب الرحلات:

حان الآن دور استعراض مكونات أدب الرحلات، وهي مجموعة من الأساليب النثرية والأدبية التي يستخدمها الرحالة في تدوين رحلته، والتي ينطوي استخدام كل أسلوب منها على وظائف محددة، ويمكن توصيف مكونات أدب الرحلات كما يأتي:

1. القيمة المعرفية:

من مكونات أدب الرحلات القيمة المعرفية التي ينطوي عليها، وهي الغاية من هذا اللون الأدبي، وتشمل المعارف التي يحتويها أدب الرحلات العلوم الدينية والجغرافية والتاريخية والأدبية والاقتصادية والعلمية، وهو أسلوب أدبي يهدف إلى إضافة الفائدة والمعرفة إلى متلقيه.

2. السرد:

السرد أيضاً من مكونات أدب الرحلات، وهو الوعاء الذي يشمل تقديم المعرفة للقارئ، وتغليفها بأسلوب فني متسلسل يسهل عليه مهمة فهمها وربطها ببعضها بعضاً؛ ففي السرد ينتقل القارئ مع الرحالة من نقطة الانطلاق إلى خضم الرحلة، ويخوض معه الأحداث والتحديات التي مر بها بفضل الجمل التي تسردها، والتي تكون مكتوبة ببراعة من قبل الرحالة.

3. الوصف:

أمَّا الوصف فهو من مكونات أدب الرحلات شديدة الحساسية؛ ففيه يستعير الرحالة الريشة واللون ليصوِّر المشاهد الطبيعية والعمرانية وهيئات الأفراد، من أجل أن يضيف لرحلته مزيداً من الواقعية والمصداقية في النقل والتصوير، وهذا المكون يتطلب من الرحالة دقة ملاحظة عظيمة ونباهة تمكِّنه من ملاحظة التفاصيل الصغيرة، وتدوينها من أجل تقديم صورة كاملة للقارئ.

4. الشِّعر:

قد يكون غريباً أن نخبركم بأنَّ الشِّعر يُعدُّ من مكونات أدب الرحلات، وفيه ينتقل الرحالة من السرد والنثر إلى الوزن الشعري والموسيقى؛ إذ يطرد الشعر الملل من نفس القارئ، ويكون استراحة فنية بين أشواط الرحلة، كما أنَّه يضيف إلى الرحلة قيمة فنية، ويكون بمنزلة ورقة رابحة يتفاضل بها الرحالة، ويتبارون فيما بينهم للفوز بتشويق القارئ.

في الختام:

من المؤسف حقاً أن يندثر هذا اللون الأدبي؛ لكنَّ التقدم التقني جعل المنافسة صعبة بالنسبة إليه، فمن سيرغب بعد اليوم في قراءة تجربة رحالة مكتوبة، وبين يديه ما يمكِّنه من رؤيتها وسماع ضجيج الحياة فيها؟ لكن عزاؤنا يبقى في القيمة الأدبية والعلمية التي اكتسبناها بفضل أدب الرحلات في الأزمان الغابرة، هو الذي كان المفهوم الأول والأصلي للسفر الافتراضي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى